بيت بعد العاصفة… من مأساة عام 1956 إلى فلسفة الاستدامة مقال المحامي أحمد الأحمد

بيت بعد العاصفة… من مأساة عام 1956 إلى فلسفة الاستدامة مقال المحامي أحمد الأحمد

بيت بعد العاصفة… من مأساة عام 1956 إلى فلسفة الاستدامة  

الاستاذ المحامي/ أحمد بن محمد الأحمد  

 رئيس تحرير مجلة الامتثال القانونية السعودية  

في منتصف القرن الماضي، وتحديدًا عام 1956، كان جدي يعيش حياة الفلاح البسيط في قرية “حرمة” بسدير. بيت من الطين، ومزرعة صغيرة يزرعها مع شريك له، يتقاسمان إنتاج الخضروات والقمح وبعض النخيل. لم تكن هناك كهرباء تضيء الليل، ولا مستشفيات تستقبل المرضى، ولا سيارات إسعاف تعالج المصابين. الحياة بدائية في ظاهرها، لكنها عامرة بالرضا في باطنها .

كان لجدي آنذاك خمسة أبناء أحياء: أربعة أولاد وبنت، بعد أن فقد قبلهم ثلاثة من أبنائه في سنوات متفرقة. تلك الفقدات الصغيرة كانت جراحًا صامتة، غير أن العائلة اعتادت أن تلملم جراحها وتواصل حياتها .

في ذلك العام، وقعت الفاجعة التي لن تُمحى من ذاكرة الأسرة. عبد العزيز، الإبن الصغير الذي لم يتجاوز العاشرة، حاول أن يُشعل “التريك” في ظلام الليل. كان ممسكًا بالقربة التي تحوي الكيروسين، وفي لحظة اهتزت يده وسقط الوقود على ثوبه، فاشتعلت النيران في جسده الغض .

صرخ الطفل، هرعت أمه، ألقت بنفسها فوقه تحاول إطفاء النار بجسدها، فالتهمتها ألسنة اللهب معه. احترق جسد عبد العزيز حتى فارق الحياة، وأصيبت جدتي بحروق شديدة أقعدتها طيلة حياتها، وظلت آثارها ظاهرة في جسدها حتى وفاتها .

لم يكن في القرية مستشفى ولا علاج. كانوا يستخدمون صفار البيض، ولفائف القماش البسيطة، وبعض الأعشاب التي يتداولها الناس. كل هذه المحاولات لم تخفف من آلامها، لكن صبرها العجيب جعل البيت يلتف حولها، فهي التي بقيت حيّة رغم أن جسدها أكلته النار .

كأن المصائب لا تأتي فرادى. بعد أسابيع قليلة، هطلت أمطار غزيرة استمرت أكثر من خمسين يومًا. انهارت بيوت القرية الطينية، وغرقت المزارع، وظهرت جذور النخيل عارية من شدة السيل. كانت مزرعة جدي من بين المزارع التي غمرتها المياه، فانقطعت موارد الرزق، وأصبح البيت بلا مصدر دخل .

لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل زاد البلاء بوقوع جدي نفسه، فانكسرت ساقه كسرًا مضاعفًا عند الركبة. حاولوا تجبيرها ثلاث مرات بوسائل بدائية، لكنه بقي عاجزًا عن ثنيها حتى وفاته. صار الرجل الذي كان يزرع الأرض مقعدًا في بيته، لا يملك إلا الصبر .

في بضعة أشهر، انهدم البيت، واحترق الابن، وأصيبت الأم، وانكسرت ساق الأب، وغرقت المزرعة. كل ذلك في قرية صغيرة لا تملك من أدوات النجاة سوى الإيمان والرضا .

بعد شهور من الألم، جاء رجل إلى جدي وقال له: “لماذا لا تكتب إلى الملك سعود عمّا جرى لك؟” لم يكن ذلك مألوفًا، لكن الحاجة دفعت جدي إلى المحاولة. كتب رسالة قصيرة بلسان البساطة، وُجهت إلى إمارة الرياض .

وبعد أيام، صدر أمر الملك سعود – رحمه الله – بصرف ثلاثين جنيهًا فرنسيًا لجدي. قد تبدو قليلة اليوم، لكنها في ذلك الزمان كانت كالمعجزة. بها استطاع أن يعيد بناء بيته المتهدم، ويرمم المزرعة، ويعيد بعض الاستقرار إلى أسرته .

هذه القصة التي عاشت في ذاكرة العائلة لم تكن مجرد مأساة، بل مدرسة في فهم معنى الأزمات. الأزمة لا تنتهي بخروجنا منها، بل تبدأ بعد انتهائها: كيف نلملم الجراح؟ كيف نستعيد الحياة؟ كيف نجعل من المحنة منحة؟

البيت بعد عام 1956 كان مختلفًا عما قبله. صار أفراد الأسرة أكثر تماسكًا، وأكثر تقديرًا لبعضهم. تعلموا أن النعمة لا تدوم إلا بالحمد، وأن الشدة مهما طالت يعقبها فرج. صارت الجلسات الليلية مليئة بالقصص عن الصبر، وتحولت الفاجعة إلى ذاكرة تذكّرهم دومًا أن ما يبقى ليس المال ولا الصحة، بل الروح التي تواصل الحياة .

حين نتأمل السيرة النبوية، نجد أن النبي ﷺ وأصحابه مرّوا بأزمات لا تقل قسوة. يوم الطائف حين أدموه ورموه بالحجارة، جلس ﷺ يدعو ربه: “إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي”. يوم الخندق، كانوا يحفرون والجوع يقرص بطونهم، فيقول ﷺ: “الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام”، فيحول الأزمة إلى أفق أمل .

هكذا علّمنا ﷺ أن الأزمة ليست نهاية، بل بداية لصياغة حياة جديدة. وكما واجه جدي عام 1956 محنته بالصبر والكتابة للملك وطلب الفرج، كذلك علّمنا النبي ﷺ أن نتحرك بخطوات عملية، مع قلبٍ مطمئن بذكر الله .

الاستدامة ليست مجرد إدارة موارد، بل هي قدرة على الاستمرار رغم العواصف. الأسرة المستدامة هي التي تعرف كيف تواصل الحياة، حتى لو فقدت ركنًا من أركانها .

استدامة الحياة داخل البيت تبدأ من ثلاثة أسس :

          1.      الإيمان: لأنه يزرع السكينة في النفوس .

          2.      الرحمة: لأنها تجعل أفراد البيت يتسابقون لاحتواء بعضهم .

          3.      التخطيط: لأنه يحول التجربة إلى خبرة، ويجعل الأزمات محطات للتعلم لا للتوقف .

اليوم، ونحن نعيش في زمن التكنولوجيا، والمستشفيات الحديثة، والبيوت المكيّفة، تبقى قصة عام 1956 تذكيرًا بأن الاستدامة الحقيقية لا تأتي من الأدوات وحدها، بل من الروح. بيت الطين الذي هدمه السيل أعاد أصحابه بناءه، بينما بيوت الخرسانة اليوم قد تنهار إن غاب عنها الحب .

القصة تعلمنا أن الاستدامة الأسرية لا تُبنى على الرفاهية، بل على الصبر. لا تُبنى على كثرة المال، بل على ثقافة الامتنان. لا تُبنى على غياب المصاعب، بل على تحويلها إلى معابر للنضج .

 

 

الخاتمة

 

إن ما جرى في عام 1956 لم يكن مجرد حادثة في بيت ريفي صغير، بل كان فصلًا من كتاب الإنسانية عن معنى الصبر، والسكينة، وفلسفة الاستدامة .

حين نتأمل قصة جدي، نجد فيها صدىً لأحداث السيرة، ولمواقف النبي ﷺ، ولمبدأ “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”. الأزمة قد تحرق جسدًا، أو تهدم بيتًا، أو تكسر ساقًا، لكنها لا تستطيع أن تكسر الروح التي تؤمن بأن الفرج قريب .

هذه الروح هي جوهر الاستدامة. فالأسرة التي تستمد قوتها من ربها، وتغرس الرحمة في قلوبها، وتتعلم من كل محنة، تكتب لنفسها عمرًا أطول، وتبني بيتًا يصمد أمام كل العواصف .

في الذاكرة الإنسانية، الأزمات لا تُمحى بسهولة، بل تبقى كجذورٍ تحت الأرض تمدّ الحاضر بمعاني الصمود. ما جرى في بيتٍ صغير في حرمة عام 1956 لم يكن مجرد حادثة محلية، بل هو انعكاس لدورة الحياة حين تتشابك النار بالماء، والفقد بالأمل، والدمعة بالدعاء. فقد كان احتراق الابن ومرض الأم وانكسار الأب وغرق المزرعة سلسلة من الضربات التي لو نزلت بغيرهم لشتّتت البيت وأطفأت الروح، لكن العائلة التقطت أنفاسها وأعادت بناء نفسها بما توفر من عزيمة وإيمان. هذه القدرة على تحويل الألم إلى حافز، والمعاناة إلى خبرة، هي ما نسميه اليوم فلسفة الاستدامة، حيث يتحول الماضي المأساوي إلى درس يورَّث للأبناء والأحفاد .

وإذا مددنا البصر إلى حاضر الأمة، نجد أن ما يحدث في غزة والسودان ليس بعيدًا عن تلك التجربة. البيوت المهدمة تحت القصف أو الحروب، والأمهات اللواتي يواجهن الفقد، والأطفال الذين يكبرون وسط الحرمان، كلها صور تعيد إلى الذاكرة مشهد الأسرة التي كادت أن تنكسر ثم تماسكت. الفارق أن ما كان أزمة عائلية صار اليوم جرحًا جماعيًا، لكن الدرس واحد: لا معنى للوجود من دون استمرار، ولا قيمة للأرض إن لم تُزرع مجددًا، ولا جدوى من التاريخ إن لم يلهم الحاضر. في كل بيت مهدّم في غزة، وفي كل مخيم في السودان، يولد المعنى ذاته: أن الكرامة تُصان بالصبر، وأن الاستدامة لا تُقاس بالبقاء المادي وحده، بل بالقدرة على النهوض من تحت الركام بقلبٍ ممتلئٍ بالأمل .

 

 

يشارك:
الوزير السعودي الحقيل  يختتم زيارته إلى الصين
الوزير السعودي الحقيل يختتم زيارته إلى الصين
عدد جديد من مجلة طريق الحرير الدولية لشهر اكتوبر
علي سلطان
علي سلطان

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *